بعدما وصلت الحركة الوطنية الجزائرية سنة 1954 إلى طريق مسدود بسبب أزمة حركة انتصار الحريات الديمقراطية، كان قرار إعلان الثورة التحريرية هو المخرج الوحيد تبنّته مجموعة من العناصر الشابة المتحمّسة لخيار الكفاح المسلّح، خاصة مع ملاءمة الظروف الدولية والإقليمية وحتى الداخلية.
اجتماع مجموعة الـ 22 وقرار إعلان الثورة المسلّحة:
لقد انبثق هذا الاجتماع عن اللجنة الثورية للوحدة والعمل التي قام أعضاؤها بتكثيف الاتصالات فيما بينهم قصد البحث عن مخرج للأزمة الخانقة التي عرفتها حركة انتصار للحريات الديمقراطية، والانتقال إلى مرحلة التحضير والإعداد لانطلاق الكفاح المسلّح.
اتفقت نخبة من المنظمة الخاصة المتكوّنة من مصطفى بن بولعيد، العربي بن مهيدي، محمد بوضياف وديدوش مراد على خوض غمار الثورة المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي والبدء الفعلي في التخطيط لها، ودعت إلى عقد اجتماع لدراسة المستجدات الجديدة واتخاذ موقف موحّد لإنقاذ المشروع الثوري، واتفق الجميع على دعوة أعضاء المنظمة السرية المُلاحقين من طرف الإدارة الفرنسية والمتواجدين عبر أنحاء الوطن والمؤمنين بحتمية الكفاح المسلّح.
انعقد هذا الاجتماع التاريخي في النصف الثاني من شهر جوان 1954 بمنزل المناضل إلياس دريش بحي المدنية حاليا (كلو صالمبي سابقا) وحضره كل من:
مصطفى بن بولعيد – محمد بوضياف – العربي بن مهيدي – مراد ديدوش – رابح بيطاط – عثمان بلوزداد – محمد مرزوقي- الزبير بوعجاج – بوجمعة سويداني – أحمد بوشعيب – عبد الحفيظ بوصوف – رمضان بن عبد المالك – محمد مشاطي – عبد السلام حباشي – رشيد ملاح- سعيد بوعلي – يوسف زيغود – لخضر بن طوبال – عمار بن عودة- مختار باجي – عبد القادر العمودي.
ترأّس مصطفى بن بولعيد الاجتماع، بينما تولى محمد بوضياف إعداد التقرير العام وعرضه على الحاضرين، وضمّنه مايلي :
– لمحة تاريخية عن المنظمة الخاصة والمهام التي باشرتها من سنة 1950 إلى غاية سنة 1954.
– حصيلة القمع والاضطهاد الذي تعرّض له المناضلون من قبل الإدارة الاستعمارية.
– تحديد أسباب الأزمة التي أدّت إلى الانقسام في صفوف حزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية بين المصاليين والمركزيين وموقف اللجنة الثورية منه.
– المطالبة باتخاذ قرارات تتلاءم مع الوضع السياسي في الجزائر، والأوضاع في البلدان المجاورة.
وبعد قراءة التقرير، شرع الحاضرون في مناقشة القضايا المطروحة، وتبلور النقاش في موقفين:
* موقف يدعو إلى مباشرة العمل المسلّح دون تأخير.
* موقف يتبنى مبدأ الكفاح الثوري مع التريث إلى أن يحين الوقت المناسب لذلك.
واختتم اجتماع الـ 22 باتخاذ القرارات التالية:
– الحياد أو عدم الدخول في الصراع بين المركزيين والمصاليين.
– العمل على توحيد الصفوف بلمّ شمل المناضلين المتنازعين.
– تدعيم موقف اللجنة الثورية للوحدة والعمل في أهدافها الثلاثة: الثورة – الوحدة – العمل.
– تفجير الثورة في تاريخ تُحدّده لجنة مصغّرة.
– انتخاب مسؤول يتولى تكوين لجنة مصغّرة.
ولتجسيد هذه التوصيات والقرارات، تمّ انتخاب محمد بوضياف مسئولا وطنيا وتكليفه بتشكيل أمانة تنفيذية تقود الحركة الثورية وتطبّق القرارات المتخذة في اللقاء. وفي اليوم التالي للاجتماع شكّل محمد بوضياف لجنة الخمسة، التي عقدت أول اجتماع لها في مدينة الجزائر بمنزل المناضل عيسى كشيدة الواقع بشارع برباروس بالقصبة. ومن القرارات الحاسمة التي توصّل إليها أعضاء اللجنة مايلي:
– مواصلة ضمّ الأعضاء السابقين في المنظمة الخاصة لهيكلتهم في التنظيم الثوري الجديد.
– استئناف التكوين العسكري اعتمادًا على كتيبات المنظمة الخاصة التي أُعيد طبعها.
– تنظيم تربصات تكوينية لصناعة القنابل والمفرقعات استعدادًا لتفجير الثورة.
– الإجماع على مبدأ القيادة الجماعية لتسيير الثورة المسلّحة.
باشرت اللجنة مهامها، بتكليف ديدوش مراد بمهمة إقناع جماعة منطقة القبائل للانضمام إلى مجموعة الـ22، لما للمنطقة من أهمية استراتيجية في مباشرة الكفاح الثوري، وبعد عدة اتصالات انضمت منطقة القبائل الممثلة في شخص كريم بلقاسم إلى اللجنة المنبثقة عن اجتماع الـ22، فأصبحت تسمى “لجنة الستة” ثم “لجنة التسعة”، بعد انضمام جماعة القاهرة (محمد بوضياف- أحمد بن بلة- محمد خيضر) التي أسندت لها مهمة الدعاية للثورة في الخارج وتزويدها بالسلاح.
التحضيرات للثورة الجزائرية:
ابتداء من سبتمبر 1954 باشرت لجنة الإعداد للثورة (لجنة الستة) في تكثيف تحركاتها واتصالاتها داخل البلاد وخارجها، وعقدت سلسلة من الاجتماعات بالعاصمة لدراسة القضايا التالية:
– نتائج الاتصالات والتحركات.
– قضية التنظيم السياسي والعسكري.
– قضية السلاح والأموال وكيفية الحصول عليهما.
– مواصلة الاتصالات بالأحزاب لجس نبضها والتعرّف على مواقفها فيما يخص تفجير الثورة.
أما في اجتماع 23 أكتوبر 1954 الذي انعقد بـمنزل المناضل مراد بوقشورة بـ “الرايس حميدو” (بوانت بيسكاد سابقا) بالعاصمة والذي يعتبر آخر لقاء تعقده لجنة الستة، فقد تقرّر ما يلي:
– تحديد تاريخ إعلان الثورة وإبقاء توقيت اندلاعها سرا.
– الاتصال بمناضلي المنظمة الخاصة السابقين وإشعارهم بالاستعداد لساعة الصفر.
– ضبط وصيانة الأسلحة القديمة المخزّنة في مخابئ المنظّمة الخاصة التي لم تكتشفها الشرطة الفرنسية عام 1950.
– وضع خريطة عسكرية مُرفقة بقائمة توضيحية عن أماكن تواجد الماء والمخابئ وقمم الجبال والأودية، زيادة على تحديد مواقع تواجد القوات الفرنسية ومراكز الشرطة والدرك وحراس الغابات المسلّحين، وأماكن تواجد العملاء والمتعاونين مع الإدارة الفرنسية.
– اعتماد مبدأ اللامركزية في تسيير شؤون الثورة، بمنح كل المناطق حرية التصرف في إدارة مصالحها وفقا لخصوصية كل منطقة.
– إعطاء الأولوية للداخل عن الخارج، باعتبار أن القرارات الهامة التي تخص الكفاح المسلّح وتطوره تخص المقاتلين بالداخل لوحدهم.
– تحديد خريطة تقسيم الجزائر إلى ستة مناطق وتعيين قادتها بشكل نهائي على النحو الآتي:
المنطقة الأولى – الأوراس بقيادة مصطفى بن بولعيد
المنطقة الثانية– الشمال القسنطيني بقيادة ديدوش مراد
المنطقة الثالثة– القبائل بقيادة كريم بلقاسم.
المنطقة الرابعة: الوسط بقيادة رابح بيطاط
المنطقة الخامسة (الغرب الوهراني) بقيادة العربي بن مهيدي.
أما منطقة الجنوب فقد تقرّر تعيين قيادتها إلى وقت لاحق.
– تعيين منسّق بين المناطق، وبين الداخل والخارج، وقد كُلّف بهذه المهمة محمد بوضياف الذي التحق عقب ذلك بالقاهرة لربط القيادات المذكورة بأعضاء الوفد الخارجي واطلاعهم على القرارات المتخذة، وإذاعة بيان أول نوفمبر على أمواج صوت العرب بالقاهرة، بالإضافة إلى مسؤولية تمرير السلاح إلى المنطقة الغربية. وفي القاهرة تمّ تعيين أحمد بن بلة مسؤولا عن إدارة مكتب الثورة (نواة الوفد الخارجي) بالدعاية للثورة الجزائرية وتنوير الرأي العام إلى جانب جمع الأسلحة.
– إعداد منشور (بيان أول نوفمبر) يعلن الثورة ويبيّن أهدافها.
– إعطاء تسمية لتنظيم جديد يحلّ محل اللجنة الثورية للوحدة والعمل، وتم الاتفاق على تسميته بـ جبهة التحرير الوطني ويُشترط الانضمام في صفوفها فرديا وليس حزبيا، وتسمية جناحها العسكري بـ جيش التحرير الوطني.
وتهدف المهمة الأولى للجبهة في الاتصال بجميع التيارات السياسية المكوّنة للحركة الوطنية قصد حثّها على الالتحاق بصفوف الثورة، وتجنيد الجماهير للمعركة الحاسمة ضد المستعمر الفرنسي.
– تحديد تاريخ اندلاع الثورة التحريرية، وكان اختيار منتصف ليلة الأحد إلى الاثنين الفاتح من نوفمبر 1954 كتاريخ انطلاق العمل المسلّح يخضع لمعطيات تكتيكية- عسكرية، منها وجود عدد كبير من جنود وضباط جيش الاحتلال في عطلة نهاية الأسبوع، يليها انشغالهم بالاحتفال بعيد القديسين، وضرورة إدخال عامل مباغتة الفرنسيين حتى تكون انطلاقة الثورة موفّقة، بالإضافة إلى قُدسية هذا اليوم التاريخي تفاؤلا بميلاد الرسول (ص) واستلهاما لمعاني الجهاد.
– وضع اللمسات الأخيرة لخريطة المخطّط الهجومي في ليلة أول نوفمبر في كامل التراب الوطني.
– تحديد كلمة السر لليلة أول نوفمبر 1954 بـ: “خالد” و”عقبة”.
اندلاع ثورة الفاتح من نوفمبر 1954:
شكّلت الإمكانيات المادية والبشرية ضرورة مُلحة لقادة الثورة، باعتبارها من المسائل الحيوية والحسّاسة لانطلاق الكفاح الثوري ونجاحه. وأجمعت المصادر التاريخية المكتوبة والشفوية على أن الإمكانيات المذكورة المتوفّرة عند انطلاق العمل المسلّح كانت ضئيلة جدا، إذ لم يتجاوز عدد المجاهدين في ليلة أول نوفمبر 1954 (1200 مجاهد على مستوى التراب الوطني)، مسلّحين ببنادق صيد وبنادق أوتوماتيكية من مخلّفات الحرب العالمية الثانية، وبحوزتهم قنابل تقليدية وسكاكين وفؤوس وعصي.
استهدفت هجومات الأفواج الأولى لجيش التحرير الوطني مراكز حسّاسة للسلطات الاستعمارية في العديد من مناطق الوطن، في مقدمتها الثكنات العسكرية، مخازن الأسلحة لجيش الاحتلال، محافظات الشرطة ، مراكز الدرك، مزارع المستوطنين التي استحوذوا عليها بالقوة ، البنايات الإدارية والمدنية، الوحدات الصناعية والاقتصادية، شبكات كهربائية، شبكات هاتفية وأعمدتها، نسف الطرق والجسور، حرق وسائل النقل وإعدام بعض المتعاونين مع السلطات الاستعمارية.
وباعتراف السلطات الاستعمارية، فإن حصيلة العمليات الهجومية ضد المصالح الفرنسية عبر كل مناطق الجزائر ليلة أول نوفمبر 1954، قد بلغت ثلاثين (30) عملية خلّفت العديد من القتلى والجرحى الأوروبيين وعملاء، وخسائر مادية معتبرة تُقدّر بالمئات من الملايين من الفرنكات. بينما قدّر المجاهد سالم بوبكر (أحد قادة هجومات الفاتح من نوفمبر في خنشلة) في بحث دقيق، مجموع الهجومات العسكرية المنفذة في كامل التراب الوطني بـ ثمانين (80) عملية.
بيان أول نوفمبر 1954 وأهداف الثورة الجزائرية:
يمثّل بيان أول نوفمبر 1954 أول وثيقة للثورة الجزائرية ، وجهته جبهة التحرير الوطني إلى كافة الشعب الجزائري بجميع انتماءاته مساء 31 أكتوبر 1954 ووزّعته صباح أول نوفمبر، حدّدت فيه قيادة الثورة مبادئها ووسائلها، ورسمت أهدافها المتمثلة في الحرية والاستقلال ووضع أسس إعادة بناء الدولة الجزائرية والقضاء على النظام الاستعماري. ووضّحت الجبهة في البيان الشروط السياسية التي تكفل تحقيق ذلك دون إراقة الدماء أو اللجوء إلى العنف، كما شرحت الظروف المأساوية للشعب الجزائري والتي دفعت به إلى حمل السلاح لتحقيق أهدافه الوطنية، مبرزة الأبعاد السياسية والتاريخية والحضارية لهذا القرار التاريخي.
برنامج جبهة التحرير الوطني:
بعد عرض أسباب تبني الخيار العسكري، كشف البيان اسم الحركة التي ستقود معركة تحرير الوطن وهو جبهة التحرير الوطني، هذه الجبهة التي استقطبت جميع المواطنين الجزائريين من جميع الطبقات الاجتماعية وجميع الأحزاب السياسية، ثم استعرض البيان البرنامج السياسي لهذه الجبهة حيث جاء فيه:
الهدف: الاستقلال الوطني بواسطة:
– إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية.
– احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني.
الأهداف الداخلية:
– التطهير السياسي بإعادة الحركة الوطنية إلى نهجها الحقيقي، والقضاء على جميع مخلّفات الفساد التي كانت عاملا هاما في تخلّفها.
– تجميع وتنظيم جميع الطاقات السليمة لدى الشعب الجزائري لتصفية النظام الاستعماري.
الأهداف الخارجية:
– تدويل القضية الجزائرية.
– تحقيق وحدة شمال افريقيا في إطارها الطبيعي العربي والإسلامي.
– في إطار ميثاق الأمم المتحدة أكّد البيان عطف جبهة التحرير الوطني تجاه جميع الأمم التي تُساند القضية التحريرية.
وبعد عرض الأهداف، أوضح البيان وسائل الكفاح، حيث أقرّ بأنه سيكون بجميع الوسائل إلى غاية تحقيق الهدف.
شروط التفاوض مع السلطات الفرنسية:
تضمّن بيان أول نوفمبر شروطا وتعهدات لفتح نقاش مع السلطات الفرنسية تجنّبا لإراقة الدماء ورغبة في تحقيق السلم، إن اعترفت هذه السلطة الاستعمارية بحق الشعوب التي تستعمرها في تقرير مصيرها بنفسها، وهذه الشروط هي كالآتي:
– الاعتراف بالجنسية الجزائرية بطريقة علنية ورسمية مُلغية بذلك كل الأقاويل والقرارات والقوانين التي تجعل من الجزائر أرضا فرنسية رغم التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات للشعب الجزائري.
– فتح مفاوضات مع الممثلين المفوّضين من طرف الشعب الجزائري على أساس الاعتراف بالسيادة الجزائرية وحدة لا تتجزأ.
– خلق جو من الثقة وذلك بإطلاق سراح جميع المعتقلين ورفع كل الإجراءات الخاصة وإيقاف كل مطاردة ضد القوات المكافحة.
وفي المقابل:
– فإن المصالح الفرنسية، ثقافية كانت أو اقتصادية والمتحصل عليها بنزاهة ستحترم وكذلك الأمر بالنسبة للأشخاص والعائلات.
– جميع الفرنسيين الذين يرغبون في البقاء بالجزائر يكون لهم الاختيار بين جنسيتهم الأصلية ويعتبرون بذلك كأجانب تجاه القوانين السارية، أو يختارون الجنسية الجزائرية وفي هذه الحالة يُعتبرون كجزائريين بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات.
– تحديد الروابط بين فرنسا والجزائر وتكون موضوع اتفاق بين القوتين الاثنتين على أساس المساواة والاحترام المتبادل.
وبهذا وضع البيان وثيقة مشرّفة للتفاوض مع فرنسا، إن أرادت الاعتراف بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره.